شخصيات مخابراتية أسطورية… (في حلــقــات) الفهد الأسمر

بقلم – عصام الحسيني

.

محمد نسيم

كلامنا في الحلقة دي هيكون عن واحد من أبرز وأمهر وأشهر رجال جهاز المخابرات العامة قاطبةً، لدرجة انه يعتبر علامة فارقة في تاريخ هذا الصرح العملاق ، فقد بلغت كفاءته الفريدة حداً جعل رؤساء مصر في ذلك العهد يتصلون به شخصيا لانجاز بعض المهمات الوطنية المستحيل تنفيذها ، ولكن لأنهم كانوا يعرفون مهاراته وذكاءه فكانوا في اللحظات الفارقة يكلفونه بما لا يستطيع أحد آخر القيام به سواه

أنه الأسطورة ..محمد نسيم .. «نسيم قلب الأسد» .. أو الفهد الأسمر

وُلد «محمد نسيم» في مصر القديمة في حي«المغربلين» المعروف بالدرب الأحمر

كان البيت الذي تربى فيه الطفل «محمد نسيم» يقع خلف مسجد «المردائي» وهو مسجد لم يكن بالنسبة إليه مكانا للصلاة فقط وإنما للمذاكرة أيضا ، وقبل أن يكمل ثلاث سنوات توفيت والدته ، وفي الخامسة عشر من عمره انتقلت عائلته إلى حي «المنيـرة» القريب من النادي الأهلي، فكانت ملاعب الهوكي وحلبات الملاكمة مفتوحة أمامه حتى أتم دراسته الثانوية والتحق بالكلية الحربية ليتخرج منها عام 1951 ، أي قبل ثورة يوليو بعام ونصف تقريبا ، وبعد تخرجه أصبح ضابطا في سلاح «الـسـواري» “سلاح المدرعات حاليا” وكان أحد ضباط الجيش المصري الذين انضموا لتنظيم الضباط الأحرار .. وشارك ضمن الصف الثاني من رجال الثورة

ونتيجة لممارسته لرياضة الملاكمة فقد أصبح أثناء دراسته بالكلية الحربية بطل الكلية والقوات المسلحة في الملاكمة ، كما أن الرياضة منحته فرصة الزواج من إحدى بطلات مصر في الجمباز

وقد شارك «نسيم» سنة 1956 في حرب السويس وقت العدوان الثلاثي على مصر
بعد تلك الحرب تم اختياره أواخر عام 1956 للالتحاق بجهاز المخابرات العامة المصرية، ، وهي الفترة التي تلت العدوان الثلاثي والتي بدأت فيها عملية اعادة بناء المجتمع الأمني في مصر “الأجهزة الداخلية والخارجية” بقيادة اللواء “العقيد وقتها” «صلاح نصر» ، وقد بدأ السيد «محمد نسيم» العمل في الجهاز فتم إلحاقه بالقطاع العربي، وكانت مهمة هذا القطاع هي جمع معلومات اجتماعية وسياسية واقتصادية من الوطن العربى تفيد القيادة السياسية في توجيه الخطاب السياسي إلى هذا القطاع ، وقد كان هذا القطاع من أنجح القطاعات في جهاز المخابرات، ويمكن تقدير هذا النجاح عن طريق معرفة شعبية الرئيس «جمال عبد الناصر» في الوطن العربي من هذه الفترة بل وحتى وقتنا هذا

وبعدها عمل«نسيم» في قسم «الخدمة السـريــة» وهو القسم المسئول عن زرع الجواسيس ، والمخطط والمدبر لأي عمليات لاختراق أجهزة العدو
.
ولمن لا يعلم فالسيد «محمد نسيم» هو عم الفنانة «يـســرا» أو «سيفين محمد حافظ نسيم»

قال رجال الموساد في كتاباتهم عن«محمد نسيم» : ننظر باحترام شديد إلى ذلك الرجل الأسمر الذي أرهقـنا كثيرا و أطار النوم من أعيننا

كان «محمد نسيم»من ذلك الطراز من الرجال الذي يمتلك قلب أسد ، وعقل الثعلب، وصبر الجمال، واصرار الأفيال ، ولذلك فقد أشتهر بأنه رجل المهام الصعبة ، ويكفي لبيان مدى سمعته الخرافية أن رئيس الجمهورية كان يتصل به مباشرة فى عدد من العمليات فائقة الخطورة والحساسية ، وما أكثرها فى ذلك الوقت
كانت أولى عمليات «محمد نسيم» التي أكسبته سمعته الرهيبة بين رفاقه هي إعادة تأهيل العميل المصري الأشهر «رفعت الجمال/رأفت الهجان» أو «جاك بيتون»… كان «رفعت الجمال» قد سافر إلى اسرائيل فى منتصف الخمسينيات واستقر بها بعد أن نجح فى زرعه رجل المخابرات العتيد اللواء «عبد المحسن فائق/ محسن ممتاز» ، ومنذ أن تم زرعه في اسرائيل وحتى بداية الستينيات لم تستفد منه المخابرات المصرية شيئا إلا المعلومات التي أرسلها قبيل وأثناء حرب العدوان الثلاثي ، وللحق فلم يكن هذا تقصيرا من «رفعت الجمال» أو أستاذه «عبد المحسن فائق»، بل كانت الظروف أقوى منهما نظرا لضعف الامكانيات التدريبية التي تلقاها رفعت ، وكان جهاز المخابرات لم يزل وليدا في ذلك الوقت، وقد تطور علم المخابرات تطور تطورا مدهشا وسريعا عبر السنوات الخمس التي أمضاها رفعت في اسرائيل، فكانت الحاجة ماسة الى رجل مخابرات من طراز فريد يتمكن أولا من السيطرة على «رفعت الجمال» صاحب الشخصية المتمردة شديدة العناد ويقوم بملئ الفراغ الذي تركه اللواء عبد المحسن فائق فى أعماقه، وذلك حتى يتمكن من اقناعه بمواصلة التدريب والعمل، وكان ضابط الحالة الذي تولى عملية الجمال هو الرائد وقتها «عبد العزيز الطودي» ، وبعد دراسة عميقة لشخصية «رفعت» ومع استحالة عودة اللواء «عبد المحسن فائق» من مقر عمله في الولايات المتحدة في ذلك الوقت لم يجد «عبد العزيز الطودي» إلا قلب الأسد «محمد نسيم» المعروف بقوة شخصيته وصرامته ونبوغه الفائق ، فهو النموذج المماثل لعبد المحسن فائق
.
وتم اللقاء بين «نسيم قلب الأسد» وبين «رفعت»، ولم تمض ساعات على لقائهما إلا وكان «محمد نسيم» قد ألقى بغياهب شخصيته القوية الفريدة في قلب ونفس المتمرد النابغة رفعت الجمال ، وكان رفعت الجمال قد أبصر بعيونه عبر المعايشة لليهود كيفية التقدم المدهش في مجال الأمن .. وكان في أمس الحاجة إلى من يريه تفوق بلاده
.
وقد كان، فقد تمكن «نسيم» عبر التدريبات المكثفة من اقناع رفعت بمدى التقدم المدهش الذي أحرزه المصريون على الاسرائيليين فى المواجهات المباشرة بينهما ، وبعد أسبوعين من التدريب المستمر والشاق خرج رفعت الجمال في مستوى «ضابط حالة» ، وهو المستوى الأعلى لأي عميل مدني في أجهزة المخابرات ، وأصبح تحت الاشراف المباشر عن بُعد من الضابط «عبد العزيز الطودي» وللتدريب العملي والمتابعة من قلب الأسد «محمد نسيم» ، ليتدفق على مصر سيل منهمر من المعلومات الغاية في السرية التي نجح رفعت في الوصول إليها بعد تدريبه الناجح على يد الفهد الأسمر، لاسيما بعد تمكنه من بسط علاقاته ونفوذه فى مجتمع «تل أبيب» بتعليمات نسيم عبر شركة «سي تورز»
وفي قلب تل أبيب واصل نجم المجتمع الاسرائيلي «جاك بيتون» – وهو الاسم الذي دخل به إسرائيل- تغلغله ونجاحاته وبلغت علاقاته حدا جعله صديقا شخصيا لوزير الدفاع الاسرائيلي الجنرال «موشى ديان» و «جولدا مائير» رئيسة الوزراء الاسرائيلية الشهيرة ،، كل هذا بفضل نبوغ رفعت الشخصي .. وبراعة معلمه الفذ «محمد نسيم» ، ومن قبل هذا وذاك النصرة الالهية لأناس نصروا الله ورسوله
.
يقول الضابط «محمد نسيم» : كانت هناك صورة للجمال جعلتنى أشعر بالفخر لبراعة ودهاء «رفعت الجمال» وهي أخذت في منزل رفعت، وفي هذه الصورة يظهر «رفعت الجمال» وهو يضع السيف ممازحا على رقبة «عزرا وايزمان» و«موشى ديان»، وقد قال بعد ذلك في مذكراته : أن هؤلاء الأغبياء لم يعرفوا إنني كنت أضع السيف في رقبتهم طوال الوقت
.
وقد قام الفنان الكبير القدير «نبيل الحلفاوي» بتجسيد شخصية الضابط «محمد نسيم» في المسلسل الشهير الذي تم انتاجه عن العميل الأشهر رفعت الجمال/رأفت الهجان ، حيث تم تعديل الاسم ليصبح نديم بدلا من نسيم ، وللحق ، فقد تلبس وتقمص «الحلفاوي» شخصية «نسيم قلب الأسد» تماما ، فكان كأنه هو في الحركات والسكنات وفي الانطباعات والانفعالات وفي طريقة الكلام نظرا للتشابه الكبير بين الشخصين في الملامح الشخصية والجسدية ، حتى أن الهواية والرياضة التي جمعتهما كانت واحدة وهي الملاكمة ،، لقد جسد الشخصية باقتدار فائق.
.
كانت نكسة 67 مدمرة فى آثارها إلى حد رهيب على مصر والعالم العربي أجمع .. الا أنها كانت ذات تأثير مختلف تماما على الأسود الرابضة فى عرين المخابرات العامة المصرية الكائن فى حي حدائق القبة بالقاهرة خلف قصر القبة الشهير فقد كان لكل مؤسسة من مؤسسات الدولة نصيبها من التقصير الذي أدى للكارثة إلا هذا الجهاز ، فقبل هذه الكارثة كان أسود ورجال هذا الجهاز ونجومه وعلى رأسهم صلاح نصر وباقي المجموعة ورفعت الجمال على دراية شبه تامة بكل التفاصيل الدقيقة والخرائط لخطة الحرب العسكرية في 67.. وقاموا بارسالها إلى قيادتهم السياسية والعسكرية، ولكن لعوامل كثيرة .. ليس هذا مكانها ، وقعت الواقعة وانهزمت مصر هزيمة مؤلمة كادت أن تهوي بها في هوة اليأس السحيقة لولا توفيق الله والارادة الفولاذية التي قُدت من الصخر ، وبدأت معارك الاستنزاف وتزلزلت القوات الاسرائيلية بكم العمليات الصادمة التي أدمت عيون رجال العدو وألهبت ظهورهم وقضت مضاجعهم مع سيل المعلومات الغزيرة التي تدفقت بعد أن نجح في الحصول عليها رجال الظل في المخابرات العامة .. وذلك بعد إعادة هيكلة الجهاز وتطهيره من الداخل من بعض المنحرفين ومنهم «صفوت الشريف» واثنين آخرين، وبالطبع كان رئيس الجهاز «صلاح نسيم» أول المذبوحين قربانا للنظام آنذاك، وتولى «محمد نسيم» وأمين هويدي مسئولية اعادة الأمور إلى نصابها في جهاز المخابرات العامة
.
عقب النكسة ، أرسل الزعيم «عبد الناصر» إلى «محمد نسيم» لمقابلته في منزله .. وحين التقى رفيقي السلاح ، بدأ عبد الناصر الحديث مذكرا ومتذكرا مدى قدرة الأسد الرابض أمامه ، فذكره باحدى عملياته التي لاقت شهرة واسعة على الرغم من سرية أعمال المخابرات في العادة ، وهي عملية «عبد الحميد السراج» …فمن هو «السراج» وماهي حكايته ؟
.
«علي عبد الحميد السراج» ضابط جيش سوري معروف جدا فهو أحد الضباط الوطنيين النوابغ في«سوريا» والذي نأى بنفسه عن كم الانقلابات الرهيبة التي تتابعت في سوريا على يد «حسني الزعيم» و «أديب الشيشيكلي» وسامى الحناوي ومصطفي حمدون وغيرهم من نجوم انقلابات سوريا العسكرية في الفترة التى أعقبت التحرير على يد «شكري القويتلي» ، وبدأ ظهور «عبد الحميد السراج» عقب التزامه بالخط الوطني قبيل الوحدة مع سوريا ، ولمع اسمه في مصر عند عبد الناصر نفسه عقب قيامه باسداء جميل العمر إلى مصر كلها وهو الجميل الذى لم تنسه له مصر وقيادتها ، فعبد الحميد السراج هو رجل المخابرات العسكرية السوري الذي تولى تدمير خطوط أنابيب البترول الممتدة من العراق عبر سوريا إلى سواحل البحر المتوسط لتصب في الناقلات البريطانية لتغذية احتياجات بريطانيا من البترول، وكانت هذه العملية أثناء تعرض مصر للعدوان الثلاثي ليصبح تدمير خطوط أنابيب البترول هو الشعرة التى قصمت ظهر البعير وكان البعير هنا هو «أنتوني إيدن» رئيس الحكومة البريطانية والذي قدم استقالته عقب فشل عدوان السويس عام 56

وكان طبيعيا مع بدء الوحدة المصرية السورية عام 1959 أن يلمع نجم «السراج» أكثر وأكثر فتدرج في السلطة حتى ولاه عبد الناصر نيابة رئاسة الاقليم الشمالي من الجمهورية المتحدة وهو سوريا، ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية السورية ، ومع العلاقة الوثيقة التي جمعته بعبد الناصر خاصة بعد عملية أنابيب البترول وأيضا بعد كشفه للمؤامرة التي استهدفت حياة عبد الناصر أثناء زيارته لسوريا عقب الوحدة، بسبب هذا كله تمكن «السراج» من السيطرة ليس فقط على الأمن الداخلي كوزير للداخلية في الاقليم الشمالي وتولى منصب نائب رئيس الاقليم الشمالي ، بل سيطر أيضا على المخابرات وأجهزة الاقتصاد والتنظيم السياسي الوحيد وهو الاتحاد الاشتراكى ، ليصبح «عبد الحميد السراج» أقوى رجل فى سوريا بأكملها
.
ولأن السلطة المطلقة مفسدة في كل الأحوال .. فقد تغلبت أجواء السلطة على نقاء «السراج» لتتدهور الأمور أكثر وأكثر خاصة بعد فشل الوحدة المصرية السورية عام 1961، وأتت نهاية «عدب الحميد السراج» على يد الانقلاب الذي أطاح به من قمة الحكم السوري عندما غفل عن ضابط الجيش السوري ومدير مكتب «عبد الحكيم عامر» الذي كان يتولى الرئاسة في الاقليم الشمالى للوحدة ، وكان هذا الضابط هو «عبد الكريم النحلاوي» والذي استهان به السراج فتمكن النحلاوي من قيادة تنظيم سري في الجيش ضده وأطاح به وطرد عبد الحكيم عامر من سوريا بطريقة مهينة وفي فضيحة مدوية ليتم اعتقال السراج في أبشع المعتقلات السورية وهو «سجن المزة»
.
وكان وقع الصدمة قاسيا ورهيبا على عبد الناصر ، إلا أنه سلم بالأمر الواقع ونفض موضوع الوحدة مؤقتا وألقى ببصره على مصير السراج المظلم فى أيدي خصومه المتعددين، فالسراج كان له أعداء في القوات المسلحة السورية التي نفذت الانقلاب عليه، وله عداوات رهيبة في «لبنان» نتيجة لتدخله في الشأن اللبناني عندما اقتضت الظروف ذلك، وله عداء قديم وثأر رهيب عند أصحاب مؤامرة اغتيال عبد الناصر اضافة إلى عداء تقليدي من الموساد والمخابرات الأمريكية ورجالهما بلبنان ، فلك أن تتخيل حجم وخطورة المصيدة التي وقع فيها «السراج» ، ولك أن تتخيل أكثر كيف يمكن تحقيق المستحيل وانقاذه منها
.
حينها أرسل عبد الناصر إلى «محمد نسيم» وكلفه بانقاذ السراج مهما كان الثمن ، وكلمة مهما كان الثمن في عرف العمل المخابراتي تعني أنه لا مستحيل.. وسافر «نسيم» منفردا إلى لبنان لهذا الغرض ، وفي هذه الأثناء كان السراج يهرب من «سجن المزة» الرهيب بمعاونة عدد من ضباط الجيش الذين كانوا لا يزالون على ولائهم له وانتقل فيما يشبه المعجزة وعبر رحلة شاقة ووعرة إلى لبنان ليجد خبر هروبه قد سبقه إلى لبنان وعشرات الذئاب الجائعة في انتظاره وتستعد لالتهامه
.
وبعد أن وصل «محمد نسيم» إلى لبنان كشف الموساد وجوده هناك .. وكذلك كشفه اللبنانيون وغيرهم ، واستنفرت جميع الأجهزة الأمنية ،، فقد كان مجرد ظهور «نسيم قلب الأسد» في أي بلد سببا كافيا لكي ترفع الأجهزة الأمنية بذلك البلد درجة استعدادها للدرجة القصوى بسبب خطورته ،، وقد تعرض «نسيم» في تلك المهمة فقط لتسع محاولات اغتيال نجا منها جميعا ، كان آخرها عن طريق وضع قنبلة زمنية في أنبوب العادم بسيارته ، وكانت تلك المحاولة غير قابلة للفشل لأن تلغيم السيارات كان من المعروف أنه يتم عادةً عن طريق تلغيم المقعد أو المحرك أو جسم السيارة السفلي، أما وضع القنبلة في أنبوب العادم فهو الابتكار غير قابل للكشف، ومع ذلك فقد اكتشفها «نسيم»وفشلت المحاولة، بل ونجح في الخروج بالسراج من لبنان والوصول به سالما إلى مصر ، وللأسف الشديد فتفاصيل كيفية الخروج ما زالت قيد السرية إلى يومنا هذا
.
وفي بيروت أيضا..كاد «محمد نسيم»أن يتعرض لعملية اختطاف من ميليشيا دموية ليصبح رهينة في يد خصوم جمال عبدالناصر ويجبروه على أن يهاجمه في احدى الاذاعات المعادية لمصر في ذلك الوقت.. وكان المكلف بالعملية شابا مصريا يعيش على العداء لبلاده.. وقرر «محمد نسيم» أن يأكله على الافطار قبل ان يتناوله هو على العشاء، فكان أن اختطفه.. ووضعه في طائرة حملته إلى القاهرة
.
تذكر «عبد الناصر»قصة هذه العملية الأسطورية وهو يتحدث إلى «نسيم» .. وكان نسيم يتساءل عن سبب استدعائه، ليقول له عبد الناصر أنه رقد طريح الفراش بعد اعلان اسرائيل عن بدء عمليات التنقيب عن البترول في سيناء في اشارة واضحة إلى أن سيناء قد أصبحت اسرائيلية لتذل القيادة المصرية، وبرقت عينا نسيم غضبا ، وعاجله عبد الناصر وهو يقول له في أمر مغلف بطعم المرارة “الحفار يا نسيم”، فنهض نسيم واقفا .. وقال له فى حزم : أمرك يا سيادة الرئيس ، وهكذا بدأت «عملية الحاج»
.
◆ عملية الحاج ◆

كانت واقعة إعلان اسرائيل نيتها التنقيب عن البترول في سيناء كما سبق القول نية سياسية لا اقتصادية.. وقد بعثت إلى احدى الشركات الكندية لاستقدام أحد أكبر الحفارات في العالم لاستخدامه في التنقيب وهو الحفار «كينتج» ، وقد خططت اسرائيل بدقة لهذه العملية وقامت عمدا باستيراد هذا الحفار الكندي والذي تجره قاطرة هولندية وعليه طاقم بحارة بريطاني لكي تعجز مصر عن ضرب الحفار بالطيران عند اقترابه من البحر الأحمر ، لأن مصر اذا غامرت بضرب الحفار علانية فمعنى هذا أنها استعدت عليها ثلاث دول كبرى على الأقل ، ولأنها تعلم تماما أن المخابرات المصرية لن تترك الحفار فقد احتاطت للأمر وقامت بتأمين الخطوط الملاحية للحفار القادم عبر المحيط الأطلنطى إلى رأس الرجاء الصالح ثم البحر الأحمر، وقامت بانتقاء خطوط سير ملاحية بالغة السرية وغير مألوفة ، كما جند الموساد رجاله وأجهزته بمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية لمصاحبة الرحلة وحماية الحفار

لكن من قال ان المصريين يعرفون المستحيل ؟ ففور تلقيه الأمر الرئاسي ، شكل «محمد نسيم» فريق عمل من أفضل رجال المخابرات العامة وخبراء الملاحة وضباط القوات البحرية لتبدأ «عملية الحاج» ، وكان سبب تسميتها بالحاج أولا لأن اسم الحاج من الأسماء المشهورة والمألوفة في افريقيا ولن تلفت الانظار ، وثانيا مزامنة أحداثها لموسم الحج
.
قام «محمد نسيم» بتجنيد عملاء المخابرات العامة في الدول التي سيمر الحفار عبر سواحلها وأعطى أوامره بضرورة التفرغ لهذه العملية ، بعد أن تمكن من الحصول على معلومات كاملة عن تصميم الحفار الفنية وقوة القاطرة الهولندية التي تسحبه وسرعتها والأماكن المحتمل رسوه فيها ، وقام باستقدام فريق من أكفأ رجال الضفادع البشرية التابع للبحرية المصرية حيث استقرت الخطة على زرع متفجرات شديدة التدمير في قلب البريمة الرئيسية للحفار لتدميرها واخراج الحفار من الخدمة ، وبدأت لعبة القط والفأر بين نسيم ورجال الموساد ..

كان قلب الأسد قد عرف من مصادره سرية أن الحفار سيتوقف في «داكار» بالسنغال فسافر إلى السنغال وهناك أكتشف أن الحفار يرسو بالقرب من قاعدة عسكرية فرنسية وهو ما يصعب من عملية تفجيره ، ولذلك عدل عن تنفيذ العملية مؤقتا وقرر الانتظار حتى يصل «الحاج» إلى محطته التالية في «أبيدجان» عاصمة دولة «ساحل العاج» ذات الميناء الشهير .. والتي بناء على الاستنتاجات المسبقة بعقله الفذ توقع أنها ستكون هي المحطة القادمة .. وبالفعل بعد عدة أيام كان الحفار قد ألقي مراسيه بأمان في ميناء أبيدجان للراحة .. وعلى الفور قرر قلب الأسد أن هذه المحطة هي المكان المثالي لتنفيذ العملية وتدمير الحفار ، خاصة انه كان هناك في نفس ذلك الوقت مهرجان ضخم لاستقبال عدد من رواد الفضاء الأمريكيين الذين يزورون أفريقيا لأول مرة ، فوجد قلب الأسد في ذلك الحدث فرصة ذهبية لانشغال الجميع هناك بأجواء المهرجان وتأمينه ، وكان فريق العمل من أبطال البحرية قد سلك طريقا مماثلا عبر عدة عواصم أوروبية حتى «أبيدجان»
.
وفي فجر يوم العملية وصل الفوج الأول من الضفادع البشرية ، وبينما الكل في انتظار الفوج الثاني، علم «محمد نسيم» من مصادره في «أبيدجان» أن الحفار في طريقه لمغادرة ساحل العاج صباح اليوم التالي ليطير عقل محمد نسيم .. ويتخذ قراره بتنفيذ العملية بنصف الفريق فحسب، وكان الحل السريع أن يكتفي نسيم بزرع المتفجرات تحت البريمة الرئيسية وأحد الأعمدة فحسب بديلا عن الخطة الرئيسية بتفجير البريمة والأعمدة الثلاثة
.
وقبيل الفجر .. تسلل الأبطال تحت جنح الظلام إلى موقع الحفار ، وخلال ساعة واحدة كانت المتفجرات فى أماكنها .. ومضبوطة التوقيت على السابعة صباحا .. وخلال هذه الفترة أشرف «نسيم» بسرعة فائقة على سفر مجموعة العمل خارج «ساحل العاج» واستقبال المجموعة التي كان مقررا وصولها في الصباح لتحط فى أبيدجان بطريقة الترانزيت وتكمل رحلتها خارج أبيدجان ، وبقي «نسيم» وحده ينتظر نتيجة العملية..
.
ومن شرفة فندقه المطل على البحر أخذ يعد الدقائق والثواني التي تمضي ببطء قاتل حتى التقا عقربا الساعة عند السابعة صباحا ليتعالى دوي الانفجارات من قلب البحر ويصبح الحفار أثرا بعد عين نتيجة الانفجار الذي هز أبيدجان لكنه كان كالموسيقي الكلاسيكية فى أذني نسيم … والذي تأمل الحفار المحطم .. لترتسم ابتسامة نصر مشرقة ومألوفة على الوجه الأسمر الصارم ، وبعدها توجه «نسيم» الى أحد مكاتب البريد ليرسل تلغرافا إلى جمال عبد الناصر يقول له كلمتين فحسب : «مبرووك الحاج»
.
هذا هو «محمد نسيم» وهكذا هم أسود المخابرات العامة المصرية الأفذاذ.. العاملون في صمت الكهوف ورسوخ الجبال..النائمون في قلب الخطر .. رهبان الصمت ونجمهم رجل المستحيل «محمد نسيم» الذي اتخذ مكانه الى جوار زملائه فى حرب أكتوبر ليتمكن جهاز المخابرات العامة من احاطة ترتيبات الحرب بالسرية الكاملة حتى ساعة الصفر القاتلة للعدو .. لتخرج المراجع العالمية معترفة بانتصار المخابرات العامة المصرية على جهاز المخابرات الأمريكي والسوفيتي والاسرائيلي والبريطاني
.
★ ومع بداية الثمانينيات .. وبعد عشرات العمليات الناجحة وشهرة واسعة نالها الفهد الأسمر المصري اللواء «محمد نسيم» .. اعتزل البطل العمل السري ليخرج من جهاز المخابرات إلى وظيفة مدنية كوكيل لوزارة السياحة المصرية
.
عندما يترجل الفارس:

وفي شهر مارس عام 2000 ترجل الفارس حيث داهمته أزمة قلبية مفاجئة تم نقله على أثرها للمستشفى بعد أن هزمته قطرة دهنية بحجم رأس الدبوس وسدت شرايين قلبه فكانت أخطر عليه ونجحت فيما فشلت فيه كل فرق القتل والقنص والمطاردة في المخابرات الاسرائيلية التي كانت تريده حيا أو ميتا لعقود طوال
.
وبعد عدة أيام بالمستشفى جاد البطل بأنفاسه الأخيرة ليسدل الستار على مسيرة الماسة الوطنية السمراء «نسيم قلب الأسد» بعد حياة حافلة بالعمليات الأسطورية في محراب البطولة تتوارى إلى جوارها صفحات التاريخ خجلا
.
◆ بعض عمليات الفهد الأسمر التي كُشف عنها اللثام:

• شارك في التخطيط لعملية الهجوم على ميناء إيلات

• زرع العميل «كيتشوك» مساعد المصور المشهور «Armani» في إسرائيل

• عملية الحصول على معلومات عسكرية حساسة بخصوص صفقة مقاتلات فرنسية للدولة الاسرائيلية حوالى عام 1961-1962 من نوع «مستير» و «سوبر مستير» و «ميراج»

• عملية إعادة تقييم وتدريب «العميل 313/رفعت الجمال» أو «جاك بيتون» أو «رأفت الهجان»

• عملية الحفار كينتنج
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *